هل التواصل هو التلاعب؟

 


« إنها مجرد ضربة تواصلية! »
لقد سمعنا جميعًا هذه العبارة من قبل، وغالبًا ما تعني أن الشركة تحاول التلاعب بنا لتحسين صورتها كي تتمكن من جني المزيد من الأرباح.
وبالفعل، نميل أحيانًا إلى ربط التواصل بالتلاعب، لأن الماكرين غالبًا ما يكونون متقنين لفن التواصل، ما يجعلهم أكثر قدرة على السيطرة علينا.

لكن في المقابل، يقال لنا أيضًا إن التواصل ضروري داخل العلاقة الزوجية أو في أي مجموعة بشرية حتى نفهم بعضنا البعض.
فهل هذا تناقض؟
هل يعني ذلك أنه لكي نُحسن التواصل، لا بد لنا من التلاعب؟
وإذا كان التواصل أمرًا أساسيًا في العلاقات الإنسانية، فهل نحن محكومون بأن نكون متلاعبين كلما تواصلنا؟

إذن، المشكلة المطروحة هي:
هل يجب أن يكون المتواصل (الناطق أو الناقل للمعلومة) متلاعبًا؟

ما معنى أن تكون متواصلاً أو متلاعبًا؟

  • المتواصل: كيان (شخص أو منظمة) ينقل المعلومات باستخدام اللغة أو الرموز. التواصل هو القدرة على تبادل المعلومات بواسطة وسائط لغوية أو رمزية.

  • المتلاعب: كيان (شخص أو منظمة) يسعى إلى دفع الآخرين خفية نحو سلوك معين عن طريق الحيلة والمناورة دون علمهم.

1. الإشكال: المتواصل قد يكون متلاعبًا (وهذا غير مقبول)

يمكن للمتواصل أن يتحول إلى متلاعب.
فمثلًا، إذا قام مسؤول إعلامي بنقل معلومات إلى الصحفيين دون التحقق من صحتها، مادام مقتنعًا بها ويهدف لإقناع الآخرين، فإن ذلك يعتبر تلاعبًا.
لأن المتلاعب لا يهتم بمدى صدق المعلومة، بل يهتم فقط بنتيجة تأثيره على الآخر.

هذا النوع من السلوك موجود في عالم الاتصال، كما هو الحال في ظواهر مثل "الغسل الأخضر" أو "الغسل الاجتماعي"، حيث يُستخدم التواصل لتجميل صورة المؤسسة دون مضمون حقيقي.

الأمر يزداد خطورة مع تطور وسائل التواصل الاجتماعي وظهور تقنيات الذكاء الاصطناعي مثل ChatGPT، حيث أصبح من السهل إنتاج "أخبار مزيفة"، والتلاعب بالحقائق عبر أي جهة تمارس التواصل.

2. الحل العملي: إلزام المتواصل بتقديم دليل أو برهان

رغم أن بعض الدول تنظم حرية التعبير مثل الولايات المتحدة عبر التعديل الأول، فإن مجال الاتصال لا يخضع لاتفاقيات صارمة مثلما هو الحال في مجالات مثل الطب أو التجارة الدولية.

ولأن المبادئ المنظمة للتواصل غامضة وقابلة للتأويل، يمكن اقتراح قاعدة بسيطة:
كل من يزاول مهنة تواصلية (كتابة، حديث، منشورات...) يجب أن يبرر ما يقوله بأدلة أو براهين.

أمثلة على أنواع الأدلة:

  • طبية: (وثائق طبية تُثبت إصابة موظفين بمتلازمة الاحتراق)

  • قانونية: (نص قانوني يضمن حق تنظيم حدث معين)

  • مالية: (أرباح السنة الجارية تجاوزت السنة الماضية)

  • اقتصادية: (الزراعة هي القطاع الأكبر من الناتج المحلي للمغرب)

  • سياسية: (ماكرون أصبح رئيسًا لفرنسا عام 2022)

  • تاريخية: (طارق بن زياد فتح الأندلس سنة 711م)

  • علمية: (الأرض تدور حول الشمس)

أمثلة على أنواع البراهين:

  • البرهان المنطقي: وفق قواعد المنطق مثل منطق أرسطو

  • القياس الصحيح: (كل المتواصلين يمارسون التسويق، رشيد يمارس التسويق، لكن هذا لا يعني أنه متواصل، الاستدلال صحيح)

أمثلة على ما يجب رفضه:

  • المغالطات المنطقية: (كل الأفيال ثدييات، إذن كل الثدييات أفيال!)

  • العلوم الزائفة: (وفقًا للخيمياء، يجب أن نتحد لخلق الانسجام!)

الهدف من هذه الفكرة:

  • ردع المتواصل عن استخدام الحيلة واللغة للتضليل

  • حماية المتلقي من الكذب

  • ضمان صدقية المعلومات

محاكاة حالتين:

الحالة 1: إعلان تجاري

«إذا اشترى كل المغاربة شامبيني، فهذا يعني أنه أفضل شامبو!»

لا توجد أي بيانات تدعم هذا الادعاء، ولا دليل علمي يثبت تفوق هذا المنتج.

الحالة 2: تواصل أثناء أزمة

32 شخصًا رفعوا دعوى ضد منتج تنظيف "ديتيرجيكس" لأنه يدّعي تنظيف الجدران.
المتحدث الرسمي يهاجم شكاوى المستخدمين بحجة أنهم يفتقرون للمعرفة الكيميائية.

هذا هجوم شخصي وليس دفاعًا حقيقيًا (مغالطة "ad hominem").


3. من وجهة نظر فلسفية: المتواصل يختار الحقيقة والمتلاعب عبدٌ لحاجته

٣. وجهة نظر فلسفية: المتواصل يختار الحقيقة، والمتلاعب عبدٌ لحاجته إلى التلاعب

الذي يُميّز بين المتواصل والمتواصل المتلاعب، هو النية.
المتواصل لا يقوم إلا بتبادل المعلومات عبر اللغة أو الشيفرة (الرمز)،
بينما المتواصل المتلاعب لا يتبادل المعلومات إلا إذا كان ذلك سيقود شخصًا ما بخُبثٍ نحو سلوكٍ معيّن.
وبالتالي، يصبح المتواصل متواصلاً متلاعبًا من اللحظة التي تكون فيها نيّته أن يدفع شخصًا ما بخفيةٍ نحو سلوكٍ مقصود.

الآن وقد تمّ إثبات ذلك: إن كنت أستطيع تغيير نيّتي، وإن كنت أستطيع أن أنوي القيام بشيءٍ أو عدم القيام به، فذلك لأن لدي الإرادة الحرة — أي الاستقلال التام دون أي تأثير.

فيما يخص الفرق بين المتواصل والمتواصل المتلاعب، فإلى جانب النية، يوجد عنصر الحرية في الاختيار بين التواصل النزيه أو التواصل بغرض التلاعب.
ولكن، إلى ماذا نهدف؟
الذي يُحدث الفرق الحقيقي هو أنّ المتواصل يختار الحقيقة،
بينما المتواصل المتلاعب يخضع لرغبته في التلاعب.
وسنقوم بتبرير هذا الموقف.

لماذا يختار المتواصل الحقيقة؟

بحسب التعريف، التواصل هو تبادل المعلومات عبر اللغة أو الشيفرة.
والمعلومة (المعلومات) هي فعل إبلاغ شخص ما بشيءٍ ما (المصدر: لاروس).
و"الإبلاغ" هو جعل شيءٍ ما معلومًا لدى شخص ما.
أما "المعرفة"، فهي مجموعة من المعلومات، والمعلومة الحقيقية هي اعتقاد صادق مبرر (حسب تعريف أفلاطوني).

والحقيقة، من وجهة نظر فلسفية، تنقسم إلى نوعين:

  • الحقيقة بالمطابقة (صحيحة هي العبارة التي تطابق الواقع من خلال اللغة) – (نظرية المطابقة: راسل ومور).

  • الحقيقة بالتماسك (الحقيقة في العبارة تعتمد على عدم تعارضها مع غيرها) – (نظرية التماسك: هيغل، سبينوزا...).

وبالتالي، المتواصل الذي يختار أن يتواصل، هو في العمق يختار تبادل الحقائق فقط.

لماذا يبقى المتواصل المتلاعب خاضعًا لحاجته إلى التلاعب؟

المتواصل المتلاعب لا يهتم إذا ما كان ما يقوله صحيحًا أو لا.
الشيء الوحيد الذي يهمّه هو أن ينجح تلاعبه.
لكن، لماذا يتلاعب؟
يتلاعب لأنه بحاجة إلى التلاعب.
والأسوأ من ذلك، أنه قد يختار أن يكبح هذه الحاجة،
لكنه يُفضّل البقاء في حالة استجابةٍ دائمة لهذه الحاجة،
كأنه يُخضع نفسه طوعًا وبشكل دائم لرغبة التلاعب ويبذل كل جهده ليبقى فيها.
بل يمكن القول إنه لا يريد عصيان هذه الرغبة رغم قدرته على ذلك.

هذه الصورة تُجسّد تمامًا حالة المتواصل الذي يُفضّل الخضوع لحاجته إلى التلاعب رغم أنه قادر على التحرر منها:



اختيار الحقيقة أفضل من الاستسلام لحاجة التلاعب.

اختيار تبادل الحقائق فقط هو الأفضل، لأنه يقوم على إرادة التمسك بهذا الهدف.
فنظرًا لأن الحقيقة لا تسير دائمًا مع رغباتنا،
إذا كان عليّ أن أُبلغ شخصًا ما بمعلومات، لكن هذه المعلومات، بمجرد قولها، ستمنعني من أن أوجهه بخفية نحو سلوكٍ يخدم رغبتي،
فالمتواصل يختار مع ذلك أن يُبلّغ الحقيقة، رغم قدرته على الاستسلام لرغبته في التلاعب.

والحقيقة بذاتها هي القيمة العليا.

لكن، لماذا ليست المحبة؟ أو الأخلاق؟ أو الصحة؟
كيف يمكن أن أعرف أن المحبة، الأخلاق، أو الصحة صحيحة؟
المعرفة هي مجموعة من المعلومات، والمعلومة هي اعتقاد صادق مبرر.
وما هو صادق ينقسم إلى:

  • ما هو صادق بالمطابقة،

  • وما هو صادق بالتماسك.

والصادق هو كل ما ينتمي إلى الحقيقة.
وبالتالي، الحقيقة هي التي تُمكّنني من معرفة أن المحبة أو الأخلاق أو الصحة صحيحة.
دون الحقيقة، لا وسيلة لي لمعرفة صدق هذه القيم.

(مثال: إذا كنتُ أحب امرأة لأنني شعرت بشعور عميق من المودة،
فإن الجملة «شعرت بشعور عميق من المودة» تكون صادقة لأنها تطابق الواقع عبر اللغة،
لأني فعلاً شعرت بذلك في الواقع، وهذا يتوافق مع الجملة التي نطقتها: «شعرت بشعور عميق من المودة»).

كما بيّنا سابقًا، المتواصل المتلاعب يخضع طوعًا لحاجته رغم إمكانية التحرر منها.
والأخطر من ذلك، أن التلاعب لا يمكن أن يكون أخلاقيًا طالما أنه يمسّ شرف المتواصل.
و"الشرف" هنا يعني جملة المبادئ التي تدفع لاحترام الذات والآخرين.

الاحترام، بالنسبة لي، هو مدى اعتباري لنفسي.
أما احترام الآخر، فهو مدى اعتباري للغير.

وبالتالي، توجيه شخص ما بخفية إلى سلوك معيّن هو أمر مهين للنفس وللآخر:

  • مهين للنفس: لأنني أختار أن أخدع الآخر كي يتبنى سلوكًا مرغوبًا.
    وإن كان الأمر كذلك، فالأجدر بي أن أخدعه بشكل مباشر، بدل أن أختبئ وراء وسائل أخرى لأحقق هدفي.
    (من الأفضل أن أخدع جيشًا أثناء معركة لأسباب تكتيكية، من أن ألعب دورًا زائفًا لأكسب النصر.
    لأن الخداع هنا يتم بعقل وتكتيك، بينما في الحالة الأخرى، أتنكر لذاتي لأوجه عدوي خفيةً نحو الهزيمة.)

  • مهين للآخر: لأن من يملك الشرف، يعترف بشرف الآخرين.
    وبالتالي، لا يجوز الاستهانة بالغير.
    (إن كنتُ أواجه خصمًا في رياضة، فلن أبحث عن وسيلة خفية لزعزعته أو لتحقيق فوز غير مستحق.
    بل أواجهه بإنصاف دون الحاجة إلى التلاعب.)

إذن، المتلاعب هو فاقد للشرف،
لأنه لا يعتبر لا نفسه ولا الآخرين، بل فقط يُخضع نفسه لرغبةٍ يرفض التحرر منها.


خلاصة هذا القسم:

المتواصل الذي يختار الحقيقة أفضل من ذلك الذي يخضع لحاجته إلى التلاعب،
لأن من يختار الحقيقة يثبت على اختياره رغم قدرته على الخضوع.
واختيار الحقيقة هو أفضل اختيار ممكن، لأنها القيمة العليا.
بدونها، لا يمكن معرفة صدق باقي القيم (مثل المحبة).

أما المتواصل المتلاعب، فهو العكس تقريبًا:
يستطيع كبح حاجته للتلاعب لكنه يبذل كل جهده ليبقى متلاعبًا.
والتلاعب بحد ذاته مهين، لأنه تفريط في الاحترام للنفس والغير،
فقط من أجل الخضوع لرغبة التلاعب.


الخاتمة:

المتواصل قد يكون متلاعبًا (كأن ينشر أخبارًا كاذبة، أو يمارس الغسل الأخضر Greenwashing).
وللتصدّي لهذا الاحتمال، نقترح حلّين عمليين:

  • إلزام المتواصل بإثبات أو تبرير معلوماته (لتفادي المغالطات المنطقية، مثلًا).

وأخيرًا، فلسفيًا: المتواصل يختار تبادل الحقيقة،
بينما المتواصل المتلاعب يبقى عبدًا لحاجته في التلاعب.

المتواصل الذي يتبادل الحقيقة هو الأفضل، لأنه اختار هذه الطريق رغم قدرته على الانحراف عنها.

والحقيقة، في ذاتها، هي القيمة العليا،
لأنه بدونها، لا يمكن معرفة صدق القيم الأخرى (مثل المحبة).

بينما المتواصل المتلاعب، يفعل العكس تقريبًا:
يستطيع التوقف لكنه يصرّ على الخضوع لحاجته.
والتلاعب في ذاته، أمر لا شرف فيه،
لأنه يُهين النفس والغير، فقط لأجل إرضاء رغبة التلاعب.

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

هل يمكننا حقًا التعبير عن كل ما نشعر به

هل الفلسفة غير متوافقة مع الاتصال؟